كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أَقُولُ: وَقِسْ عَلَى السَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْفَاحِشَةِ جَمِيعَ الرَّذَائِلِ حَتَّى الْقَتْلَ، فَإِنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ تُعَدَّ مِنَ الْفَضَائِلِ عَلَى ذَلِكَ التَّعْرِيفِ إِذَا ظَنَّ فَاعِلُهَا أَنَّهُ يَنْفَعُ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ كَأَنْ يَقْتُلَ مَنْ يَرَى هُوَ فِي سِيَاسَتِهِ أَوِ اعْتِقَادِهِ أَوْ عَمَلِهِ ضَرَرًا وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ يَرَى ذَلِكَ نَافِعًا، فَهَذَا الْمَذْهَبُ الْجَدِيدُ فِي الْفَلْسَفَةِ الْعَمَلِيَّةِ هُوَ شَرُّ مَذْهَبٍ أُخْرِجَ لِلنَّاسِ، فَإِنَّ الرَّذَائِلَ فِيهِ قَدْ تُسَمَّى عَقَائِلَ الْفَضَائِلِ، وَالْمَفَاسِدُ تُعَدُّ فِيهِ مِنْ أَنْفَعِ الْمَصَالِحِ، وَالْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ هُوَ الْهَوَى، وَلَوْلَا افْتِتَانُ ضُعَفَاءِ النُّفُوسِ بِبَعْضِ مَنْ يَقُولُونَ بِهِ لَمَا اسْتَحَقَّ أَنْ يُحْكَى، وَكَانَ لِلْفَلَاسِفَةِ الْأَوَّلِينَ مَذَاهِبُ فِي الْفَضِيلَةِ مَعْقُولَةٌ، وَآرَاءٌ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ أَنْطَقَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِكَثِيرٍ مِنَ الْحِكَمِ، وَلَكِنْ ثَمَرَاتُ عُقُولِهِمْ لَمْ تَكُنْ دَانِيَةَ الْقُطُوفِ، يَجْنِيهَا الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَا لِهِدَايَةِ الْوَحْيِ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، وَالتَّأْثِيرِ السَّرِيعِ فِي إِصْلَاحِ شُئُونِ الِاجْتِمَاعِ، فَمِنْ ثَمَّ كَانَ الدِّينُ أَنْفَعَ مِنَ الْفَلْسَفَةِ لِلنَّاسِ، وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا مَا أَسْنَدْتُهُ إِلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ فِي تَفْسِيرِ ابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللهِ: إِنَّهَا إِنَّمَا تُطْلَبُ بِالْإِخْلَاصِ، وَعَدَمِ إِرَادَةِ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُتَفَاخِرُونَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ تَصَدَّقْنَا أَعْطَيْنَا مَنَحْنَا عَمِلْنَا وَعَمِلْنَا، فَهَؤُلَاءِ إِنَّمَا يَبْتَغُونَ الرِّبْحَ بِمَا يَبْذُلُونَ أَوْ يَعْمَلُونَ لَا مَرْضَاةً لِلَّهِ تَعَالَى؛ وَلِذَلِكَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونَ خَفِيًّا، وَأَنْ يُخْلِصُوا فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ نَجِيًّا؛ لِأَنَّ الِاسْتِفَادَةَ مِنْهُ بِجَذْبِ الْقُلُوبِ إِلَيْهِمْ، وَتَسْخِيرِ النَّاسِ لِخِدْمَتِهِمْ، وَرَفْعِهِمْ لِمَكَانَتِهِمْ إِنَّمَا تَكُونُ بِإِظْهَارِهِ لَهُمْ، لِيَتَعَلَّقَ الرَّجَاءُ فِيهِمُ انْتَهَى بِبَسْطٍ وَإِيضَاحٍ.
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} إِلَخْ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ وَعْدَهُ بِالْجَزَاءِ الْحَسَنِ لِلَّذِينِ يَتَنَاجَوْنَ بِالْخَيْرِ وَيَبْتَغُونَ بِنَفْعِ النَّاسِ مَرْضَاةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعِيدَهُ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ يَتَنَاجَوْنَ بِالشَّرِّ، وَيُبَيِّتُونَ مَا يَكِيدُونَ بِهِ لِلنَّاسِ فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ مُشَاقُّونَ لِلرَّسُولِ إِذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَتْ لَهُمُ الْهِدَايَةُ عَلَى لِسَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ بِحَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَتَبَيَّنْ لَهُمُ الْهِدَايَةُ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الْوَعِيدَ، وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ، فَمَنْ نَظَرَ مِنْهُمْ فِي الدَّلِيلِ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ الْحَقُّ وَبَقِيَ مُتَوَجِّهًا إِلَى طَلَبِهِ بِتَكْرَارِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ مَعَ الْإِخْلَاصِ فَهُوَ مَعْذُورٌ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ كَالَّذِي لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ، وَالْمُشَاقَّةُ بَعْدَ تَبَيُّنِ الْهُدَى إِنَّمَا تَكُونُ عِنَادًا وَعَصَبِيَّةً أَوِ اتِّبَاعًا لِشَهْوَةٍ تَفُوتُ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ، اهـ.
أَقُولُ: الْمُشَاقَّةُ الْمُعَادَاةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنْ شَقَّ الْعَصَا، أَوْ هِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الشَّقِّ، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَادِينَ يَكُونُ فِي شِقٍّ غَيْرَ الَّذِي فِيهِ الْآخَرُ كَمَا قَالُوا، وَالْكَلَامُ جَاءَ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى طُعْمَةَ، كَمَا ذُكِرَ فِي قِصَّتِهِ وَعَلَى قَلِيلٍ مِنَ النَّاسِ مِنْهُمْ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى قَلِيلٍ مِنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ فُطِرُوا عَلَى تَرْجِيحِ الْهُدَى عَلَى الضَّلَالِ وَالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ وَعَرَفُوهُ، وَنَاهِيكَ بِمَنْ دَخَلَ فِيهِ وَعَمِلَ بِهِ وَرَأَى الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَقَوْمُهُ «كَطُعْمَةَ» وَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَذَا التَّرْجِيحِ الْفِطْرِيِّ وَالْعَمَلِ بِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَبَيَّنَ بِالْبُرْهَانِ الْيَقِينِيِّ الْمَنْطِقِيِّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ النَّقْضَ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَظْهَرَ لِلْمَرْءِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْهُدَى أَوْ أَنَّهُ أَهْدَى مِنْ مُقَابِلِهِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مُقَابِلٌ، وَسَبَبُ هَذَا وَمَنْشَؤُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ فُطِرَ عَلَى حُبِّ نَفْسِهِ وَحُبِّ الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ لَهَا وَالسَّعْيِ إِلَى ذَلِكَ وَاتِّقَاءِ مَا يُنَافِيهِ وَيَحُولُ دُونَهُ؛ لِذَلِكَ كَانَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ الَّتِي هِيَ دِينُ الْفِطْرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَةِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ، فَكُلُّ مَا حُرِّمَ فِيهَا عَلَى النَّاسِ فَهُوَ ضَارٌّ بِهِمْ، وَكُلُّ مَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَوِ اسْتُحِبَّ لَهُمْ فِيهَا فَهُوَ نَافِعٌ لَهُمْ؛ وَلِهَذَا كَانَ غَيْرَ مَعْقُولٍ أَنْ يَتْرُكَهَا أَحَدٌ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَهَا وَتَتَبَيَّنَ لَهُ، وَكَانَ إِنْ وَقَعَ لابد لَهُ مِنْ سَبَبٍ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [2: 130]، أَيْ: لَا أَحَدَ يَرْغَبُ عَنْهَا إِلَّا مَنِ احْتَقَرَ نَفْسَهُ وَأَزْرَاهَا بِالسَّفَهِ وَالْجَهَالَةِ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ أَصْنَافَ النَّاسِ فِي اتِّبَاعِ الْهُدَى وَتَرْكِهِ وَسَبَبِ ذَلِكَ فَنَقُولُ:
(الصِّنْفُ الْأَوَّلُ): مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى بِالْبُرْهَانِ الصَّحِيحِ، وَوَصَلَ فِيهِ إِلَى حَقِّ الْيَقِينِ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ اعْتِقَادًا، وَيَنْدُرُ جَدًا أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ عَمَلًا وَلِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ كَلِمَةٌ فِيهِ كَالْيَقِينِ فِي الْحَقِّ كِلَاهُمَا قَلِيلٌ فِي النَّاسِ، وَهُوَ يَعْنِي الرُّجُوعَ بِالْعَمَلِ، إِذِ الْإِنْسَانُ يَمْلِكُ مِنْ عَمَلِهِ مَا لَا يَمْلِكُ مِنَ اعْتِقَادِهِ، فَمَنْ كَانَ مُوقِنًا بِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَكُونُ إِلَهًا وَلَا شَرِيكًا لِلَّهِ يُؤَثِّرُ فِي إِرَادَتِهِ وَيَحْمِلُهُ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَهُ لَوْلَاهُ لَا يَسْتَطِيعُ بَعْدَ الْيَقِينِ الْحَقِيقِيِّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْمَسِيحَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّنْ عُبِدَ وَمِمَّا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ آلِهَةٌ أَوْ شُرَكَاءُ لِلَّهِ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَطِيعُ وَيَدْخُلُ فِي إِمْكَانِهِ أَنْ يَدْعُوَهَا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ، وَأَنْ يَعْبُدَهَا بِغَيْرِ الدُّعَاءِ أَيْضًا كَالتَّمَسُّحِ بِهَا وَالتَّعْظِيمِ الَّذِي يَعُدُّهُ أَهْلُهَا مِنْ شَعَائِرِ الْعِبَادَاتِ، لَا مِنْ عُمُومِ الْعِبَادَاتِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَاتِهَا لَا يَفْعَلُهُ، أَيْ: لَا يَرْجِعُ عَنِ الْحَقِّ بِالْعَمَلِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ السَّبَبِ، وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ.
(الصِّنْفُ الثَّانِي): مَنْ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى بِالدَّلَائِلِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي يَرْجُحُ بِهَا بَعْضُ الْأَشْيَاءِ عَلَى بَعْضٍ بِحَسَبِ أَفْهَامِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، لَا بِالْبُرْهَانِ الْمَنْطِقِيِّ الْمُؤَلَّفِ مِنَ الْيَقِينِيَّاتِ الْبَدِيهِيَّةِ أَوِ الْمُنْتَهِيَةِ إِلَيْهَا، وَهَؤُلَاءِ لَا يَرْجِعُونَ عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْهُدَى بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ؛ إِذْ يَكْفِي أَنَّهُمْ مُعْتَقِدُونَ بِهِ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، فَلَا يُشَاقَّانِ مَنْ جَاءَهُمْ بِذَلِكَ وَلَا يَتَّبِعُونَ غَيْرَ سَبِيلِ أَهْلِهِ إِلَّا لِسَبَبٍ يَقِلُّ وُقُوعُهُ كَمَا سَيَأْتِي.
(الصِّنْفُ الثَّالِثُ): مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى تَقْلِيدًا لِمَنْ يَثِقُ بِهِ مِنَ النَّاسِ كَآبَائِهِ وَخَاصَّةً أَهْلَهُ وَرُؤَسَاءَ قَوْمِهِ، وَهَذَا لَا يَدْخُلُ فِيمَنْ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ وَالْهُدَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ شَيْءٌ؛ وَلِذَلِكَ يَتْرُكُونَ الْهُدَى إِلَى كُلِّ مَا يُقِرُّهُمْ عَلَيْهِ رُؤَسَاؤُهُمْ مِنَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ.
(الصِّنْفُ الرَّابِعُ): مَنْ لَمْ يَتَّبِعِ الْهُدَى؛ لِأَنَّهُ نَشَأَ عَلَى تَقْلِيدِ أَهْلِ الضَّلَالِ، فَلَمَّا دُعِيَ إِلَى الْهُدَى لَمْ يَنْظُرْ فِي دَعْوَةِ النَّبِيِّ الَّذِي دُعِيَ إِلَى دِينِهِ، وَلَا تَأَمَّلَ فِي دَلِيلِهِ لِأَنَّهُ صَدَّقَ الرُّؤَسَاءَ الَّذِينَ قَلَّدَهُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلِاسْتِدْلَالِ، وَأَنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَمْثَالِهِ النَّظَرَ فِي الْأَدِلَّةِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَلِّدُوا أَهْلَ الِاجْتِهَادِ، وَمَنْ يَنْقُلُ إِلَيْهِمْ مَذَاهِبَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَمَنْ قَلَّدَ عَالِمًا لَقِيَ اللهَ سَالِمًا، وَمَنْ نَظَرَ وَاسْتَدَلَّ زَلَّ وَضَلَّ، وَهَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي زَمَنِ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْأَدْيَانِ الْمُدَوَّنَةِ كَالْمَجُوسِ، وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ إِذَا تَرَكَ رُؤَسَاؤُهُمْ دِينَهُمْ أَوْ مَذْهَبَهُمْ يَتْبَعُونَهُمْ فِي الْغَالِبِ، وَلاسيما إِذَا دَخَلُوا فِي مَذْهَبٍ أَوْ دِينٍ جَدِيدٍ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِهِ عَدَاوَاتٌ دِينِيَّةٌ وَلَا سِيَاسِيَّةٌ تُنَفِّرُهُمْ تَنْفِيرًا طَبِيعِيًّا وَلِذَلِكَ دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُلُوكَهُمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَتَبَ لِكُلِّ رَئِيسٍ أَنَّ عَلَيْهِ إِثْمَ قَوْمِهِ أَوْ مَرْءُوسِيهِ إِذَا هُوَ تُوَلَّى عَنِ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يُجِبْ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ.
(الصِّنْفُ الْخَامِسُ): كَالَّذِي قَبْلَهُ فِي التَّقْلِيدِ لِأَهْلِ الضَّلَالِ تَعْظِيمًا لِجُمْهُورِ قَوْمِهِ وَمَنْ نَشَأَ عَلَى احْتِرَامِهِمْ مِنْ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَاسْتِبْعَادًا لِكَوْنِهِمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى اتِّبَاعِ الضَّلَالِ، وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الدَّاعِي قَدْ عَرَفَ الْهُدَى مِنْ دُونِهِمْ، أَوْ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ عَامَّةُ الْعَرَبِ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، وَالْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لِحَالِهِمْ هَذِهِ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّ سَرْدِهَا، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُقَلَّدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْأَدْيَانِ الْمُدَوَّنَةِ ذَاتِ الْكُتُبِ وَالْهَيَاكِلِ وَالرُّؤَسَاءِ الرُّوحِيِّينَ أَنَّ تَقْلِيدَ هَؤُلَاءِ الْعَرَبِ أَضْعَفُ وَجَذَبَهُمْ إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ أَسْهَلُ وَكَذَلِكَ كَانَ، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ.
(الصِّنْفُ السَّادِسُ): عُلَمَاءُ الْأَدْيَانِ الْجَدَلِيُّونَ الْمَغْرُورُونَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ النَّاقِصِ بِهَا، الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الْهُدَى فَلَمْ يَتَوَلَّوْا عَنْهُ اتِّبَاعًا لِرُؤَسَاءَ فَوْقَهُمْ، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِيهِ بِالِاسْتِقْلَالِ وَالْإِخْلَاصِ، بَلْ أَعْرَضُوا احْتِقَارًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا جَرَوْا عَلَيْهِ وَوَثِقُوا بِهِ، وَجَعَلُوهُ مَنَاطَ عَظَمَتِهِمْ، وَحَسِبُوهُ مُنْتَهَى سَعَادَتِهِمْ، وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُقَلِّدُونَ كَعَامَّتِهِمْ، وَلَكِنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الصَّوَارِفِ عَنْ قَبُولِ الْهُدَى مَا لَيْسَ عِنْدَ الْعَامَّةِ مِنْ مَعْرِفَةِ عَظَمَةِ أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ يَنْتَمُونَ إِلَيْهِمْ وَمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ وَالْفَضَائِلِ وَالْكَرَامَاتِ، وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْجَدَلِيَّةِ عَلَى حَقِيقَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ.
(الصِّنْفُ السَّابِعُ): الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْهُدَى عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا الصَّحِيحِ الْمُحَرِّكِ لِلنَّظَرِ، فَلَمْ يَنْظُرُوا فِيهَا وَلَمْ يُبَالُوا بِهَا لِأَنَّهُمْ رَأَوْهَا بَدِيهِيَّةَ الْبُطْلَانِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ كُفَّارِ هَذَا الزَّمَانِ الَّذِينَ لَا يَبْلُغُهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنَّهُ دِينٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدْيَانِ الْكَثِيرَةِ الْمُخْتَرَعَةِ فِيهِ وَفِي هَذِهِ مِنَ الْعُيُوبِ وَالْأَبَاطِيلِ وَمَا هُوَ كَذَا وَكَذَا، كَمَا اخْتَرَعَ وَافْتَرَى رُؤَسَاءُ النَّصْرَانِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلاسيما مَا كَتَبُوهُ قَبْلَ تَأْلِيبِ الشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ عَلَى الْحَرْبِ الشَّهِيرَةِ بِالصَّلِيبِيَّةِ، فَهَؤُلَاءِ لَا يَبْحَثُونَ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ، كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَبْحَثُونَ عَنْ دِينِ الْمُورْمُونِ مَثَلًا.
(الصِّنْفُ الثَّامِنُ): مَنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْهُدَى عَلَى وَجْهِهَا أَوْ غَيْرِ وَجْهِهَا فَنَظَرُوا فِيهَا بِالْإِخْلَاصِ وَلَمْ تَظْهَرْ لَهُمْ حَقِيقَتُهَا وَلَا تَبَيَّنَتْ لَهُمْ هِدَايَتُهَا، فَتَرَكُوهَا وَتَرَكُوا إِعَادَةَ النَّظَرِ فِيهَا.
(الصِّنْفُ التَّاسِعُ): هُمْ أَهْلُ الِاسْتِقْلَالِ الَّذِينَ نَظَرُوا فِي الدَّعْوَةِ كَمَنْ سَبَقَهُمْ، وَلَا يَتْرُكُونَ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمُ الْحَقُّ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، بَلْ يَعُودُونَ إِلَيْهِ وَيَدْأَبُونَ طُولَ عُمْرِهِمْ عَلَيْهِ، وَهُمُ الَّذِينَ نَقَلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَنْ مُحَقِّقِي الْأَشَاعِرَةِ الْقَوْلَ بِنَجَاتِهِمْ لِعُذْرِهِمْ.
(الصِّنْفُ الْعَاشِرُ): مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالْهُدَى الْبَتَّةَ، وَهُمُ الَّذِينَ يُعَبِّرُ عَنْهُمْ بَعْضُهُمْ بِأَهْلِ الْفَتْرَةِ، وَمَذْهَبُ الْأَشَاعِرَةِ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ وَنَاجُونَ.
هَذِهِ هِيَ أَصْنَافُ النَّاسِ فِي الْهُدَى وَالضَّلَالِ، بِحَسَبِ مَا خَطَرَ لِلْفِكْرِ الْقَاصِرِ الْآنَ وَلَا يَصْدُقُ عَلَى صِنْفٍ مِنْهَا أَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى إِلَّا الْأَوَّلَ وَالثَّانِي، فَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ أَفْرَادِهِمَا فِي حَيَاتِهِ، أَوْ يُعَادِ سُنَّتَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْهُدَى، وَإِنَّمَا سَبِيلُهُمْ كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}، وَهُوَ الَّذِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةٍ أُخْرَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [45: 23]، وَهُمْ أَجْدَرُ النَّاسِ بِدُخُولِ جَهَنَّمَ، وَصَلْيُهَا الِاحْتِرَاقُ بِهَا وَسَائِرُ أَنْوَاعِ عَذَابِهَا؛ لِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، وَعَانَدُوا الْحَقَّ وَاتَّبَعُوا الْهَوَى.
وَأَمَّا سَائِرُ الْأَصْنَافِ فَيُوَلِّي اللهُ كُلًّا مِنْهُمْ مَا تَوَلَّى أَيْضًا، كَمَا هِيَ سُنَّتَهُ فِي الْإِنْسَانِ الَّذِي خَلَقَهُ مُرِيدًا مُخْتَارًا حَاكِمًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الطَّبِيعَةِ الْمُحِيطَةِ بِهِ، بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِمَا التَّصَرُّفَ الَّذِي يَرَاهُ خَيْرًا لَهُ؛ وَلِذَلِكَ غَيَّرَ فِي أَطْوَارٍ كَثِيرَةٍ أَحْوَالَ مَعِيشَتِهِ وَأَسَالِيبَ تَرْبِيَتِهِ، وَسَخَّرَ قُوَى الطَّبِيعَةِ الْعَاتِيَةِ لِمَنَافِعِهِ {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [45: 13]، فَهُوَ مُرَبِّي نَفْسِهِ وَمُرَبِّي الطَّبِيعَةِ الَّتِي أَلَّهَهَا بَعْضُ أَصْنَافِهِ جَهْلًا مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ لَا مُتَصَرِّفَ فَوْقَهُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، أَقُولُ هَذَا نَسْفًا لِأَسَاسِ جَبْرِيَّةِ الْفَلْسَفَةِ الْأُورُبِّيَّةِ الْحَاضِرَةِ بَعْدَ نَسْفِ أَسَاسِ جَبْرِيَّةِ الْفَلْسَفَةِ الْغَابِرَةِ، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ مَا يُسَمُّونَهُ الْأَفْعَالَ الْمُنْعَكِسَةَ تَعْمَلُ فِي الْإِنْسَانِ عَمَلَهَا، وَأَنَّهُ لَا عَمَلَ لَهُ بِهَا، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ حَاكِمٌ عَلَيْهَا كَحُكْمِهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ تَرَكَ لَهَا الْحُكْمَ اسْتَبَدَّتْ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ وَفِيهَا فَعَلَ.
قُلْتُ: إِنَّ مِنْ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي الْإِنْسَانِ أَنْ يُوَلِّيَ كُلًّا مِنَ الْأَصْنَافِ مَا تَوَلَّى، وَلَكِنَّهُ لَا يُصْلِي كُلًّا مِنْهُمْ جَهَنَّمَ الَّتِي سَاءَ مَصِيرُهَا؛ لِأَنَّ إِصْلَاءَ جَهَنَّمَ هُوَ تَابِعٌ لِمَا يَتَوَلَّاهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الضَّلَالَةِ فِي اعْتِقَادِهِ، وَنَاهِيكَ بِهِ إِذْ تَوَلَّاهَا بَعْدَ أَنْ ظَهَرَتِ الْهِدَايَةُ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِمَا تَكُونُ عَلَيْهِ النَّفْسُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الطَّهَارَةِ وَالزَّكَاءِ وَالْكَمَالِ بِحَسَبِ تَزْكِيَةِ صَاحِبِهَا لَهَا، أَوْ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ بِحَسَبِ تَدْسِيَتِهِ لَهَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا وَذَاكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى}.
وَإِنَّنِي لَا أَتَذَكَّرُ أَنَّنِي اطَّلَعْتُ عَلَى تَفْسِيرٍ وَاضِحٍ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَكِيمَةِ الْعَالِيَةِ نَوَلِّهِ مَا تَوَلَّى، وَإِنَّمَا يُفَسِّرُونَ اللَّفْظَ بِمَدْلُولِهِ اللُّغَوِيِّ، كَأَنْ يَقُولُوا: نُوَجِّهْهُ إِلَى حَيْثُ تَوَجَّهَ، أَوْ نَجْعَلْهُ وَالِيًا لِمَا اخْتَارَ أَنْ يَتَوَلَّاهُ، أَوْ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ اسْتِدْلَالَ كُلِّ فُرْقَةٍ بِالْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِهَا أَوْ تَحْوِيلِهَا إِلَيْهِ، أَعْنِي مَذْهَبَهُمْ فِي الْكَسْبِ وَالْقَدَرِ وَالْجَبْرِ، وَتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ أَوْ عَدَمِ تَعَلُّقِهَا بِالشَّرِّ، وَالَّذِي أُرِيدُ بَيَانَهُ وَتَوْجِيهَ الْأَذْهَانِ إِلَى فَهْمِهِ هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُبَيِّنَةٌ لِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي عَمَلِ الْإِنْسَانِ، وَمِقْدَارِ مَا أُعْطِيَهُ مِنَ الْإِرَادَةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، وَالْعَمَلِ بِالِاخْتِيَارِ، فَالْوِجْهَةُ الَّتِي يَتَوَلَّاهَا فِي حَيَاتِهِ، وَالْغَايَةُ الَّتِي يَقْصِدُهَا مِنْ عَمَلِهِ، يُوَلِّيهِ اللهُ إِيَّاهَا وَيُوَجِّهُهُ إِلَيْهَا، أَيْ يَكُونُ بِحَسَبِ سُنَّتِهِ تَعَالَى وَالِيًا عَلَيْهَا، وَسَائِرًا عَلَى طَرِيقِهَا، فَلَا يَجِدُ مِنَ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ مَا يَجْبِرُهُ عَلَى تَرْكِ مَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ، وَلَوْ شَاءَ تَعَالَى لِهَدَى النَّاسَ أَجْمَعِينَ بِخَلْقِهِمْ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الطَّاعَةِ كَالْمَلَائِكَةِ، وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ عَلَى مَا نَرَاهُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَفَاوُتِ الِاسْتِعْدَادِ وَالْإِدْرَاكِ، وَعَمَلِ كُلِّ فَرْدٍ بِحَسَبِ مَا يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْفَعُ فِي عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا إِلَى آخِرِ مَا لَا مَحَلَّ لِشَرْحِهِ هُنَا مِنْ طَبَائِعِ الْبَشَرِ.